الطباعة :
ظهور المطبعة وتطورها وانتشارها :
يرى أكثر مؤرخي الأدب أن "المطبعة هي أهم عامل مؤثر في نهضة الأدب الحديث، وهو رأي صحيح، إذ لا يمكن أن نتصور نجاحًا للعوامل الأخرى دون وجود آلة الطباعة إذ على الطباعة تعتمد سائر العوامل ولولاها لما انتشر كتاب ولما ظهرت صحيفة، فقبل اختراع الطباعة كانت الكتب تُخَطُّ باليد فكان المؤلف يؤلف ثم ينسخ من كتابه نسخة أو نسختين، أو يستدعى ناسخًا ليقوم بذلك فيقطع الشهور بل السنوات في نقل النسخة الواحدة (1) حسب حجم الكتاب المؤلف، وكان ورق الكتابة صفيقا فربما احتاج الكتاب الواحد إلى "جمل" أو "عدة "جمال" لتحمله وتنقله من بلد إلى آخر.
محاولات الصينيين البدائية في الطباعة :
وقد كان للصينيين منذ ألفي سنة محاولات بدائية في الطباعة، إذ كانوا يأتون بكتلة خشبية مسطحة ينقشون فيها بالحفر حروفًا أو تصاميم نافرة يطلونها بالحبر ثم يضغطون فوقها صحيفة الورق لطبع ما حفروه، وكانت هذه أيضًا طريقة بطيئة وكثيرة التكاليف (٢).
اختراع آلة الطباعة الحديثة :
ويرجع اختراع آلة الطباعة الحديثة إلى الألماني "يوهان جوتنبرج" في القرن الخامس عشر ، فقد صنع حروف طباعة متفرقة وتحمل كل حرف كتلة خشبية منفصلة عن غيرها، ولكنها تساويها في الارتفاع، وترتب هذه الحروف بحيث تكوّن الكلمات والجمل والصفحة الكاملة، وتُضَم جميعًا مزمومة من جميع الجوانب ويوضع فوقها مداد ثقيل خاص بالطباعة، وبدلًا من ضغط الورق على الحروف المحبرة باليد استخدم "جوتنبرج" مكبسًا آليًا لضغط الصحيفة على الحروف، وبعد طبع الصحيفة، يعاد تنضيد الحروف ثانية لتركيب كلمات وجمل أخرى، وطبع صحيفة تالية، وعلى الرغم من هذا ظلت عملية الطباعة بطيئة.
تحسينات جرت في عملية الطباعة :
وقد جرت تحسينات كثيرة في عملية الطباعة مع مرور الزمن، وتوالي العصور، فالحروف أصبحت لا تنضد باليد (إلا) في حالات خاصة وإنما استعين بآلات كبيرة ذات لوحات مفاتيح، وهذه الآلات تنضد تلك الحروف آليا في أسطر أو على أفلام، وقد اخترعت آلة الطباعة السطرية "اللينوتيب" في أمريكا في أواخر القرن التاسع عشر على يد طباع ألماني اسمه "أوثمار مرغنثالر" ، وهذه الآلة تيسر عمل الطابع وتسرعه، إذ أن معظم عمليات التشغيل منها تجري بحركة تلقائية (أتوماتيكية).
--------------
(۱) الموسوعة العلمية الميسرة ، مكتبة لبنان، ص ٢٠٦.
(۲) المرجع السابق.
رواسم الطباعة :
وتستخدم الرواسم التي تسمى "أكليشيهات" الطباعة في هذه الآلات الضخمة التي تدار بالطاقة الكهربائية.
تطور الطباعة في الوقت الحاضر :
وفي الوقت الحاضر تطورت الطباعة فأصبحت إليكترونية يقوم بها الحاسب الآلي في سرعة وإتقان، واخترعت إلى جوار ذلك آلات حديثة تقوم ، بسحب آلاف النسخ في وقت قصير جدًا.
اللغة العربية وطباعة ما كتب بها :
أما فيما يتعلق باللغة العربية وطباعة ما كتب بها فقد ظهرت أول مطبعة عربية في إيطاليا في أوائل القرن السادس عشر في مدينة "فانو"، ومن الملفت للنظر أن الذين عنوا بالطباعة العربية هم أباء الكنيسة، فقد كان البابا "يوليوس الثاني" هو الذي أمر بإنشاء هذه المطبعة. وقد أخذت تعمل إلى سنة ١٥١٤م أي إلى عهد البابا "ليون" العاشر"، وفي سنة ١٥١٦ م طبع الزبور ، ثم طبع "القرآن" في البندقية، ولكن الطبعة أحرقت خوفًا من تأثيرها على عقائد النصارى. وفي روما طبع كتاب "القانون" لابن سينا سنة ١٥٩٣ م، وأخذت المطابع العربية تتكاثر في أوربا، وقدَّمت للقارئ مئات من الكتب العربية.
أول مطبعة دخلت البلاد العربية :
وفي سنة ١٦١٠ م دخلت البلاد العربية أول مطبعة وهي مطبعة "دير قزحيا بلبنان" ، وقد طبعت فيها الكتب العربية، ثم أنشأ البطريرك أثناسيوس الرابع الدباس مطبعة حلب سنة ۱۷۰۲م، ثم ظهرت بعد ذلك مطبعة "دير الشوير بلبنان"، وشرعت في العمل المنظم سنة ١٧٣٤ م، وكانت مطبوعات هذه المطابع لا تتعدى الكتب الدينية خاصة التي ترسخ عقائد النصارى في نفوسهم.
وفي تلك الحقبة الزمنية نفسها تمكّن بعض النابهين من الأتراك من إقامة أول مطبعة، وقد أتمت طبع الكتاب العربي في الآستانة سنة ١٧٢٨ م، وفي سنة ١٨٣٤م أنشئت المطبعة الأمريكية في بيروت، ثم تلتها مطبعة الآباء اليسوعيين سنة ١٨٤٨م وتُعدَّان من أهم المطابع في بلاد الشام فقد أسهَمَتَا في نهضة الأدب وإحياء كتب التراث وطبع المترجمات في الشرق العربي خاصة أن مطبعة الآباء اليسوعيين فيها حروف عربية وأفرنجية ويونانية وعبرية وأرمنية.
الطباعة في مصر قبل عهد الحملة الفرنسية :
ولم تكن مصر صاحبة حظ من الطباعة ولا كان لها بها عهد قبل الحملة الفرنسية، وقد حمل نابليون فيما حمله جيشه مطبعة يستعين بها على طبع الأوامر التي يمليها والمنشورات التي يعلن فيها الغرض الذي جاءت حملته من أجله.
استخدتم مؤرخوا الحملة الفرنسية للطباعة :
ويقول المؤرخون للحملة الفرنسية أنهم كانوا يستخدمون مطبعتهم هذه لطباعة جريدتين بالفرنسية لأفراد الحملة وذويهم، ينشرون فيها أخبار البلاد، والآمال التي يعلقونها على هذا الغزو الذي اغتربوا في سبيله، إلى جانب ما يجري في الوطن الأصلي "فرنسا" من أحداث؛ ليكون وجدانهم مرتبطا بفرنسا ومصر معا.
وكان مع هاتين الصحيفتين نشرة باللغة العربية تسمى (التنبيه) تتضمن ما يراد به إرهاب الشعب وإخضاعه، ورضاه بالواقع الذي يعايشه، ومع أن مدة هذه الحملة لم يطّل أكثر من ثلاث سنوات يمكن أن تكون ابتداءً تاريخيًا لوجود الطباعة والصحافة في مصر.
الطباعة في عهد محمد علي :
فلما جاء محمد علي بعد ذلك كان من أهم أعماله البارزة المطبعة التي كان الناس يسمونها (المطبعة الأميرية أو مطبعة الباشا، وقد أنشأ لها دارًا ضخمة كبيرة في بولاق سنة ۱۸۲۱م، وقد طبعت بها الكتب المترجمة وغيرها من كتب التراث في العلوم والآداب.
الطباعة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر :
وبدءًا من النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى نهاية القرن العشرين أخذت المطابع تكثر وتتزايد فطبعت كتب التراث العربي في الأدب وغير الأدب، وطبعت دواوين الشعر في مختلف العصور.
وواكبت الطباعة في مصر وفي العالم العربي تطور فن الطباعة وتقنيته في العالم الغربي.
أثر الطباعة في نهضة الأدب الحديثة :
قلنا إن الطباعة هي أهم عوامل التأثير في نهضة الأدب ، ودليل ذلك أنها حققت للأدب النتائج الآتية:
أولا: سهولة الحصول على ذخائر التراث العربي القديم، ونتاج الحضارة الحديثة.
ثانيا: كشفت طباعة الكتب التي كانت مخطوطة نادرة الوجود عن حقيقة هامة وهي: "سبق" علمائنا وأدبائنا القدامى إلى أسباب التمدن والرقي"، ولكن غفل عن هذه الأسباب أبناؤهم وورثتهم فسبقهم إليها الأوربيون في اختلاس وتدبير، فأقاموا عليها حضارتهم الحديثة ثم طوروها وأبعدوا في السبق.
ثالثا: اطلع الأدباء على ما أنتجه السالفون في العصور الأولى بعد أن كان اطلاعهم مقصورًا على ما أُنتج في عصور الضعف الأدبي وهي العصور القريبة منهم، أما ما سلف فقد كان مدفونًا في المخطوطات التي لم يكن من السهل الحصول عليها أو الاطلاع فيها، فلما طبعت كتب الجاحظ وأبو حيان التوحيدي وابن خلدون ، وأمثالهم، وطبعت دواوين الشعراء الفحول من أمثال أبي نواس وأبي تمام والمتنبي والمعري رأوا لغة عربية مستقيمة الأسلوب، ليس فيها تكلف ولا سجع ولا إلغاز بل هي لغة سلسلة تحمل في الوقت نفسه أفكارًا علمية نافعة، ومعاني أدبية مبتكرة وهذا غير ما عهدوا وألفوا.
رابعًا: لم تقتصر المطابع على طبع كتب التراث، ولا الكتب التي يترجمها الأعلام ممن أتقنوا اللغات الأجنبية عن الغرب، بل أخذت تُطبع مؤلفات أعلام الأدب العربي في العصر الحاضر، فكانت سببًا في ظهور الأعلام الجدد واشتهار أدبهم، وإقبال القراء عليهم.
خامسا: الكتاب المطبوع أرخص ثمنا من الكتاب المخطوط، وأخف محملا، وأوسع انتشارًا، وأكثر قراء، فلم يعد الحصول على الكتاب وقفًا على طبقة الأغنياء، أو متداولا بين طلاب الحلقات العلمية في المساجد، أو مرهونًا بمن يملك ثمن النسخ الباهظ التكاليف، أو من تتيح له إمكاناته فرصة النسخ لقربه من مؤلف الكتاب، بل أصبح بفضل المطبعة قليل التكاليف سهل الانتقال، ممكن العرض لكثرة المطبوع ، فأصبح الكتاب شائعًا بعد أن كان خاصا قاصرًا، وساعد في التيسير سهولة المواصلات حيث قربت المسافات (۱) واليوم أصبح من الممكن اختزان المؤلفات والمعلومات في الحاسب الإلكتروني، ومن السهل على الذي يريد الاطلاع على أي معلومة أدبية أو غير أدبية الدخول إلى مواقع المعلومات، فيما يسمى شبكة المعلومات أو "الإنترنت".
سادسا: حققت الطباعة "وحدة الثقافة العربية"، ففي مقدور المصري أن يطلع على ما طبع في الشام أو العراق في الوقت نفسه الذي يطلع فيه الشامي أو العراقي على ما طبع في مصر أو في الجزيرة العربية أو في المغرب أو في السودان.
بل حققت الطباعة وحدة الثقافة العالمية وسرعة التأثر والتأثير فنتاج العقل الأوربي والأمريكي والياباني والهندي والروسي يصل إلينا في سرعة خاطفة" ، فالمطبعة بالوسائل الحديثة في النشر والانتقال، وبما أذاعت من أدبنا القديم، وما تذيع من الأدب الغربي بيننا، مترجما وفي لغاته أحدثت آثارًا كبيرة في حياتنا الأدبية نتج عنها توسيع دائرة الثقافة عندنا إلى أبعد الحدود.
-----------
(1) المرجع السابق ...
سابعًا: حققت الطباعة ما يمكن أن أسميه ديمقراطية الثقافة"، فليس هناك أفكار محتكرة لطبقة خاصة، أو لفئة معينة، وإنما صار الأدب والثقافة والمعارف العامة، والآراء والمذاهب متاحة لجميع الناس والأعمار فهي كالماء والهواء حق للجميع.
ثامنا : ساعدت الطباعة على ظهور "الصحافة" سواء أكانت عامة أم أدبية أم متخصصة في مجال محدد من مجالات الحياة المعرفية.
تاسعا: أدت طباعة الكتب والمؤلفات إلى ظهور دور النشر، والمكتبات التي تبيع الكتب، وإلى إنشاء المكتبات العامة المجانية تحت رعاية الدولة أو في المدارس والجامعات وبعض المؤسسات الخاصة ليقرأ فيها المتعلمون وراغبو البحث الكتاب الذي قد لا يقدرون على شرائه أو يجدونه قد نفد من مكتبات البيع.
عاشرا: ساعدت الطباعة على ظهور الصحف وازدهار فنون الإعلام الصحفي.